تكتيك الكرات الطويلة والقصيرة- توازن جديد في كرة القدم الحديثة

شهدت لعبة كرة القدم تحولًا واضحًا على مر العقود، حيث انحسر الاعتماد بشكل ملحوظ على أسلوب اللعب الذي يرتكز على الكرات الطويلة. ففي سالف العصر، كانت الفرق تعتمد بصورة أساسية على إرسال الكرات العالية بهدف الوصول بأقصى سرعة إلى مرمى الفريق المنافس.
إلا أن هذا الأسلوب، حسب تحليل معمق نشرته جريدة "الغارديان" المرموقة، قد أظهر مع مرور الوقت عدم جدواه وفاعليته. وقد تم التخلي عنه تدريجيًا مع بزوغ عهد جديد في الدوري الإنجليزي الممتاز خلال حقبة التسعينيات، ثم تسارعت وتيرة هذا التحول بصورة أكبر في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وذلك بفضل التأثير البالغ الذي أحدثه المدرب القدير بيب غوارديولا.
وبفضل التطور الهائل الذي طرأ على المهارات الفنية للاعبين، أصبحت التمريرات القصيرة واللعب المتقن على أرضية الملعب هما الأسلوبين المهيمنين. وقد وصل الأمر إلى حد تغيير قوانين اللعبة نفسها، ليصبح مسموحًا بتمريرات قصيرة للغاية من ركلات المرمى داخل حدود منطقة الجزاء.
ووفقًا لبيانات جريدة "الغارديان"، فقد انخفضت نسبة التمريرات الطويلة (التي يتجاوز طولها 32 مترًا، باستثناء الكرات العرضية والركلات الركنية) من 19.4% في موسم 2006-2007 إلى 10.5% في الموسم الحالي. ومع ذلك، لا يزال اللجوء إلى الكرات الطويلة أمرًا ضروريًا في بعض الحالات، حتى بالنسبة لفرق كبيرة مثل مانشستر سيتي.
ويفضل العديد من المشجعين المتحمسين في المدرجات تجنب الفرق للعب بأسلوب التمريرات القصيرة بالقرب من مرماهم، خشية الوقوع في أخطاء قاتلة قد تتسبب في تسجيل أهداف في مرماهم. وهو شعور يتعزز مع كل خطأ فادح يرتكبه المدافعون.
وعندما تولى غوارديولا مهمة تدريب مانشستر سيتي، سخر البعض من أسلوبه الذي يعتمد على التمريرات القصيرة المتقنة ("تيكي تاكا")، معتقدين بأنه لن يكتب له النجاح في إنجلترا. ولكنه بعد مرور تسعة مواسم حافلة بالإنجازات، وبعد أن حصد ستة ألقاب في الدوري الإنجليزي الممتاز، أثبت خطأ جميع منتقديه. وأصبح اللعب من الخلف أسلوبًا مألوفًا ومعتادًا، الأمر الذي زاد من أهمية الضغط العالي على الخصم، ولكنه في المقابل جعل اللعب من الخلف أكثر صعوبة وتعقيدًا.
وفي الموسمين الأخيرين، تعرض فريقان صاعدان، هما بيرنلي وساوثهامبتون، لانتقادات لاذعة بسبب إصرارهما وتمسكهما بأسلوب التمريرات القصيرة في مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى هبوطهما إلى الدرجة الأدنى بعد موسم واحد فقط.
وتوضح البيانات والإحصائيات أن الفرق التي تعتمد على أسلوب التمريرات القصيرة ترتكب أخطاءً أكثر، مما يمنح الفريق الخصم فرصًا سانحة للتسجيل. في المقابل، تتجنب الفرق التي تلجأ إلى الكرات الطويلة هذه الأخطاء نسبيًا.
فعلى سبيل المثال، تصدرت فرق ساوثهامبتون (51 خطأً)، وتشيلسي (45 خطأً)، وأستون فيلا (43 خطأً) قائمة الفرق التي ارتكبت أخطاءً أدت إلى تسديدات على المرمى من قبل الفريق الخصم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفرق كانت من بين الفرق الأقل استخدامًا للتمريرات الطويلة.
أما الفرق الكبرى والعريقة، مثل مانشستر سيتي، وآرسنال، وليفربول، والتي تمتلك في صفوفها لاعبين متميزين يتمتعون بمهارات عالية، فهي قادرة على اللعب بأسلوب التمريرات القصيرة بنجاح. ولكنها مع ذلك لا تزال ترتكب أخطاءً (أكثر من 30 خطأً لكل فريق).
وفي المقابل، سجل فريق كريستال بالاس، الذي احتل المرتبة الثانية في نسبة التمريرات الطويلة (14.5%)، أقل عدد من الأخطاء (19 خطأً). كما أن الفرق التي تعتمد على التمريرات القصيرة غالبًا ما تفقد الكرة على بعد 40 مترًا من مرماها، باستثناء فريقي مانشستر سيتي وآرسنال بفضل المدافعين المهاريين والمتألقين الذين يمتلكونهما.
ويبدو أن قرار نادي توتنهام بالاستعاضة عن المدرب أنجي بوستيكوغلو بالمدرب توماس فرانك قد يعكس تحولًا قادمًا في الدوري الإنجليزي الممتاز نحو تبني أسلوب لعب أكثر واقعية وبراغماتية.
وتحت قيادة المدرب بوستيكوغلو، كان فريق توتنهام ثاني أقل فريق استخدامًا للتمريرات الطويلة (7.3%). ولكنه في المقابل خسر الكرة 354 مرة بالقرب من مرماه، كما سجل أدنى مركز له في جدول ترتيب الدوري (المركز السابع عشر).
في المقابل، يعتمد المدرب فرانك، المدير الفني لنادي برينتفورد، على أسلوب لعب أكثر مباشرة، حيث احتل فريقه المركز الخامس في نسبة التمريرات الطويلة (13.1%).
وختامًا، لا يعني ما سبق أننا سنشهد عودة عصر الكرات الطويلة إلى الملاعب، ولكن هناك اتجاهًا نحو تحقيق توازن أكبر في أساليب اللعب. ففي بعض الحالات، قد يلجأ المدافعون إلى تشتيت الكرة بعيدًا عن مناطق الخطر تحت الضغط الشديد، بدلًا من المخاطرة بتمريرات قصيرة قد تعرض مرماهم للخطر.